روائع مختارة | قطوف إيمانية | التربية الإيمانية | اعترافات.. كنت قبوريًّا..! 1 من 2

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > التربية الإيمانية > اعترافات.. كنت قبوريًّا..! 1 من 2


  اعترافات.. كنت قبوريًّا..! 1 من 2
     عدد مرات المشاهدة: 2739        عدد مرات الإرسال: 0

الخرافة: عجوز متصابية تتعلق بصاحبها...!

التوحيد: يهدم أولاً.. ثم يبني من جديد..!

ليس سهلاً أن يتراجع القبوري..! التوحيد يحتاج إلى إرادة واعية...!

تردّدت كثيراً في كتابة هذه الإعترافات لأكثر من سبب.. ثم أقدمت على كتابتها لأكثر من سبب، وأسباب الإحجام والإقدام واحدة.. فقد خشيت أن يقرأ العنوان بعض القراء ثم يقولون: ما لنا ولتخريف أحد معظِّمي القبور.. ولكن قد يكون بعض القراء في المنطقة النفسية التي كنت أعيشها قبل تصحيح عقيدتي.. فيقرأون إعترافاتي فيفهمون، ويعبرون من ظلمة الخرافات إلى نور العقيدة -وفي ذلك وحده ما يقويني على الكشف عن ذاتي أمام الناس- ما دام ذلك سوف يكون سبباً في هداية بعضهم إلى حقيقة التوحيد..؟

ولقد كنت من كبار معظّمي القبور، فلا أكاد أزور مدينة بها أي قبر أو ضريح لشيخ عظيم إلا وأهرع فوراً للطواف به... سواء كنت أعرف كراماته أو لا أعرفها.. أحياناً أخترع لهم كرامات... أو أتصورها.. أو أتخيلها.. فإذا نجح ابني هذا العام.. كان ذلك للمبلغ الكبير الذي دفعته في صندوق النذور..وإذا شُفيت زوجتي، كان ذلك للسمنة التي كان عليها الخروف الذي ذبحته للشيخ العظيم فلان ولي الله!..

وحينما التقيت بالدكتور جميل غازي، وكان اللقاء لعمل مجلة إسلامية تقوم بالإعلان والنشر عن جمعية العزيز بالله القاهرية، والتي تضم مساجد أخرى، ورسالتها الأولى التوحيد، وتصحيح العقيدة، وبحكم اللقاءات المتكررة.. كان لابد من صلاة الجمعة في مسجد العزيز بالله.. وهاجم الدكتور جميل في بساطة، وبعقلانية شديدة هذا المنحنى المخيف في العقيدة، وسماه: شركاً بالله، وذلك لأن العبد في غفلة من عقله يطلب المدد والعون من مخلوق ميت!!..

أفزعني الهجوم، وأفزعتني الحقيقة.. وما أفزع الحقيقة للغافلين... ولو أن الدكتور جميل اكتفى بذلك لهان الأمر.. لكنه في كل مرة يخطب لابد أن يمس الموضوع بإصرار.. فالضّريح لا يضم سوى عبد ميت فقط.. بل قد يكون أحياناً خالياً حتى من العظام التي لا تنفع ولا تضرّ..!

= في أول الأمر إهتززت.. فقدت توازني.. كنت أعود إلى بيتي بعد صلاة كل جمعة حزيناً.. شيء ما يجثم فوق صدري.. يقيد أحاسيسي ومشاعري.. أحاول في مشقة أن أخرج عن هذا الخاطر... هل كنت في ضلالة طوال هذه الأعوام؟..أم أن صديقي الدكتور قد بالغ في الأمر.. فأنا أعتقد أن كل من نطق بالشهادة لا يمكن أن يكون كافراً لهفوة من الهفوات أو زلةٍ من الزلات..!

شيء آخر أشعل في فؤادي لهباً يأكل طمأنينتي في بطء... إن الدكتور يضعني في مواجهة صريحة ضد أصحاب الأضرحة الأولياء، والخطباء على المنابر صباح مساء.. يعلنونها صريحة: إن الذي يؤذي ولياً.. فهو في حرب مع الله سبحانه وتعالى، وهناك حديث صحيح في هذا المعنى.. وأنا لا أريد أن أدخل في حرب ضد أصحاب القبور والأضرحة، لأنني أعوذ بالله من أن أدخل في حرب معه  جل جلاله...!

وقلت: إن أسلم وسيلة للدفاع هي الهجوم.. واستعدت قراءة بعض الصفحات من كتاب الغزالي -إحياء علوم الدين- وصفحات أخرى من كتاب -لطائف المنن- لابن عطاء الاسكندري، وحفظت عن ظهر قلب الكرامات، وأسماء أصحابها، ومناسبات وقوعها، وذهبت الجمعة الثانية، وكظمت غيطي وأنا أستمع إلى الدكتور، فلما إنتهى من الدرس وأصرَّ على أن يدعوني لتناول طعام الغداء، وبعد الغداء.. تسلمته هجوماً بلا هوادة، معتمداً على عاملين:

*الأول: هو أنني حفظت كمية لا بأس بها من الكرامات.

*والثاني: أنني على ثقة من أنه لن يتهور فيداعبني بكفيه الغليظتين، لأنني في بيته! وتناولت طعامه فأمنت غضبه، وقلت له: والآتي هو المعنى، وليس نص الحوار:

إن الأولياء لا يدرك درجاتهم إلا من كان على درجتهم من الصفاء، والشفافية، وأنهم رجال أخلصوا لله.. فجعل لهم دون الناس ما خصهم به من آيات وأن.... وأن... وأن.. وإنتظر الدكتور حتى إنتهيت من هجومي.. وأحسست أنه لن يجد ما يقوله..

وإذا به يقول: هل تعتقد أن أي شيخ منهم كان أكرم على الله من رسوله..؟ قلت مذهولاً: لا..

*إذاً كيف يمشي بعضهم على الماء... أو يطير في الهواء.. أو يقطف ثمار الجنة وهو على الأرض.. ورسول الله لم يفعل ذلك..؟

كان يمكن أن يكون ذلك كافياً لإقناعي أو لتراجعي.. لكنه التعصب -قاتله الله-!! كَبُرَ عليّ أن أسلّم بهذه البساطة، كيف ألقي ثقافة إسلامية عمرها في حياتي أكثر من ثلاثين عاماً.. قد تكون مغلوطة.. غير أني فهمتها على أنها الحقيقة، ولا حقيقة سواها!!

*وعدت أقرأ من جديد في الكتب التي تملأ مكتبتي.. وأعود إلى الدكتور، ويستمر الحوار بيننا إلى ساعة متأخرة من الليل، فقد كنتُ من كبار عشاق الصوفية.. لماذا؟ لأني أحب أشعارهم وأحبّ موسيقاهم، وألحانهم التي هي مزيج من التراث الشعبي، وخليط من ألحان قديمة متنوعة... شرقية، وفارسية، ومملوكية، وطبلة إفريقية أحياناً تدقّ وحدها.. أو ناي مصري حزين ينفرد بالأنين، مع بعض أشعارهم التي تتحدث عن لقاء الحبيب بمحبوبه وقت السَّحر..!

لهذا وللأسباب الأخرى.. أحببت الصوفية.. وكنت أعشقها، وأحفظ عن ظهر قلب الكثير من شعر أقطابها..لاسيما ابن الفارض، وكل حجتي التي أبسطها في معارضة الدكتور، أنه وأمثاله من الذين يدعون إلى التوحيد لا يريدون للدين روحاً، وإنما يجردونه من الخيال، وأنهم لابد أن يصلوا إلى ما وصل إليه أصحاب الكرامات، لكي يدركوا ما هي الكرامات..! فلن يعرف الموج إلا من شاهد البحر، ولا يعرف العشق إلا من كابد الحب -وهذا أسلوب صوفي، أيضاً في الاستدلال- ولهم بيت شهير في هذا المعنى!.

وحتى لا يضطرب وجداني، وتتمزق مشاعري... حاولت أن أنقطع عن لقاء الدكتور.. ولكنه لم يتركني.. فوجئت به يدق جرس الباب، ولم أصدق عيني.. كان هو.. قد جاء يسأل عني.. وتكلمنا كالعادة كثيراً وطويلاً.. فلما سألني عن سبب عدم حضوري لصلاة الجمعة معه... قلت له بصراحة: لقد يئست منك!..

قال: ولكني لم أيأس منك.. أنت فيك خير كثير للعقيدة.

قلتُ: إنه يستدرجني على طريقته، ولمحت معه كتاباً من وضعه عن سيرة الإمام محمد بن عبد الوهاب.

فقلت له: أعطني هذه النسخة.. هل يمكن ذلك...؟

قال: هذه النسخة بالذات ليست لك، وسوف أعدك بواحدة.

وهذه هي طريقته للإثارة دائماً.. لا يعطيني ما أطلب من أول مرة.. فخطفتُ النسخة، ورفضت إعادتها له!..

وبعد منتصف الليل بدأت القراءة.. وشدني الكتاب موضوعاً وأسلوباً.. فلم أنم حتى الصباح!..

كان الكتاب -على حجمه المتواضع- كالإعصار، كالزلزال.. أخذني من نفسي ليضعني على حافة آفاق جديدة.. حكاية الشيخ محمد بن عبد الوهاب نفسه.. ثم قصة دعوته، وما كابده من معاناة طويلة.. حينما كانت في صدره حنيناً، وكلما قرأت صفحة وجدت قلبي مع السطور. فإذا أغلقت الكتاب لأمر من الأمور يتطلب التفكير أو البحث في كتب أخرى.. إستشعرت الذنب، لأنني تركت الشيخ في البصرة ولم أصبر حتى يعود.. أو تركته في بغداد يستعد للسفر إلى كردستان.. ولا بد أن أصبر معه حتى يعود من غربته إلى بلده!..

يقول الدكتور في كتابه مجدد القرن الثاني عشر الهجري شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب.

وبعد هذا التطواف والتجوال هل وجد ضالته المنشودة..؟ لا، فإن العالم الإسلامي كله كان يعاني نوبات قاسية من الجهل والإنحطاط والتأخر.. عاد الرجل إلى بلده يحمل بين جوانحه ألماً ممضّاً، لما أصاب المسلمين من إنتكاس وتقهقر في كل مناحي حياتهم.

عاد إلى بلده وفي ذهنه فكرة تساوره بالليل والنهار.

لماذا لا يدعو الناس إلى الله؟

لماذا لا يذكرهم بهدي رسول الله..؟

لماذا... لماذا...

إذًا، فهذه العقيدة التي يريدها الدكتور لم تأت من فراغ... فمنذ القرن الثاني عشر الهجري... والإمام محمد بن عبد الوهاب... يُفكّر، ويقدّم، لكي يهدم صروح الأضرحة، ويحطّم شبح الخرافات، ويُطارد المشعوذين الذين لطخوا وجه الشريعة السمحاء...بخزعبلاتهم التي إكتسبت مع الأيام قداسة، تخلع قلوب المؤمنين... إذا فكروا في إزالتها وفي ذلك يقول الكاتب: ماذا كان وقْع هذه الأعمال على نفوس القوم...

ويجيب المؤرخون على ما يرويه الأستاذ أحمد حسين في كتابه مشاهداتي في جزيرة العرب: إن القوم لم يقبلوا مشاركة الرجل فيما قام به من قطع الأشجار، وهدم القباب، بل تركوا له وحده أن يقوم بهذا العمل، حتى إذا ما كان هناك شر أصابه وحده..!.

هل يكون ما يزلزل كياني الآن هو الخوف الذي ورثته..؟ وهو نفس الذي جعل الناس في بلدة العُيَيْنة: موطن الشيخ، يتركونه يزيل الأشجار، وقبة قبر زيد بن الخطاب بنفسه.. خوفاً من أن تصيبهم اللعنات المختلفة من كرامات هذه الأماكن وأصحابها.

ومضيت أقرأ ومع كل صفحة أشعر أنني أخلع من جدار الوهم في أعماقي حجراً ضخماً.. وحينما بلغت منتصف الكتاب كانت فجوةً كبيرةً داخلي قد إنفتحت، وتسلل منها ومعها نور اليقين.. ولكن في زحمة الظلمة التي كانت تعشعش في داخلي.. كان الشعاع يُومض لحظة ويختفي لحظات..!

* لقد استطاع الدكتور أن ينتصر... تركني أحارب نفسي بنفسي، بل جعلني أتابع مسيرة التوحيد مع شيخها محمد بن عبد الوهاب، وأشفق عليه من المؤامرات التي تحاك ضده، وحوله، وكيف أنه حينما أقام الحد على المرأة التي زنت في العيينه..غضب حاكم الإحساء سليمان بن محمد بن عبد العزيز الحميدي، وإستشعر الخطر من الدعوة الجديدة وصاحبها... فكتب إلى حاكم العيينه ابن معمر يأمره بكتم أنفاسها، وقتل المنادي بها، والعودة فوراً إلى حظيرة الخرافات والخزعبلات.

ولما كان ابن معمر قد ارتبط مع الشيخ في مصاهرة... فقد زوجه ابنته... فإنه تردد في قتله، ولكنه دعاه إلى إجتماع مغلق، وقرأ عليه رسالة حاكم الإحساء ثم رسم اليأس كله على ملامحه، وقال له: إنه لا يستطيع أن يعصي أمراً لحاكم الإحساء، لأنه لا قِبَل له به.... ولعلها لحظة يأس كشفت للشيخ عن عدم إيمان ابن معمر... ولم تزد الشيخ إلا إصرارًا على عقيدته، وقوة توحيده.. فالحكام الطغاة لا يحاربون دائماً إلا داعية الحق.. وقبل الشيخ في غير عتاب أن يغادر العيينة..مهاجراً في سبيل الله بتوحيده.. باحثاً عن أرض جديدة يزرعه فيها!..

في الصباح استيقظتُ على ضجة في البيت غير عادية.. وإعتدلت في فراشي، ووصَلَتْ إلى أذني أصوات ليست آدمية خالصة، ولا حيوانية خالصة.. ثغاء، وصياح، وكلام..غير مفهوم العبارات.. وقلت: لابد أنني أعاني من بقية حلم ثقيل.. فتأكدت من يقظتي، ولكن الثغاء هذه المرة إخترق طبلة أذني.. ودخلت عليّ زوجتي تحمل إليَّ أنباء سارةً جدًا... وهي تتلخص في أن ابنة خالتي  التي تعيش في أقصى الصعيد، ومعها زوجها، وابنها البالغ من العمر ثلاث سنوات  قد وصلوا في قطار الصعيد فجراً، ومعهم الخروف...!

وظننت أن زوجتي تداعبني.. أو أن ابنة خالتي -وكنت أعرف أن أولادها يموتون في السنوات الأولى-، قد أطلقت على طفل لها اسم خروف لكي يعيش مثلاً، وهي عادات معروفة في الصعيد، وقبل أن أتبين المسألة.. أحسست بمظاهرة من أولادي تقترب من باب حجرة نومي.. وفجأة وبدون إستئذان اقتحم الباب خروف له فروة، وقرون، وأربعة أقدام... واندفع في جنون من مطاردة الأولاد له.. فحطّم ما إعترض طريقه.. ثم اتجه إلى المرآة، وفي قفزة عنترية إعتدى على المرآة بنطحة قوية، تداعت بعدها، وأحدثت أصواتاً عجيبة، وهي تتحطم!.

تَمَّ كل ذلك في لحظة سريعة.. وقبل أن أسترد أنفاسي، وخيل إليّ أن بيتنا انفتح على حديقة الحيوانات.. رغم أنني أسكن في العباسية، والحديقة في الجيزة.. ولكن وجدت نفسي أقفز من على السرير، وخشيت زوجتي ثورة الخروف، وتضاءلت فإنزوت في ركن.. ترمقني بعينيها، وتشجعني لكي أتصدى لهذا الحيوان المجنون.. الذي اقتحم علينا خلوتنا.. ولكن الصوت والزجاج المتناثر زاد من صياج الحيوان.. ولمحت في عينيه، وفي قرنيه الموت الزؤام.. وإستعدت في ذهني كل حركات مصارعي الثيران، وأمسكت بملاءة السرير، وقبل أن أجرب رشاقتي في الصراع مع الخروف دخلت ابنة خالتي وهي في حالة انزعاج كامل.. فقد خيل لها أنني سوف أقتله... وصاحت وهي على يقين من أنني سأصرع:

- حاسب، هذا خروف السيد البدوي.

ونادته فتقدّم إليها في دلال، وكأنه الطفل المدلّل.. فأمسكت به تُربتُ على رأسه، وروت لي أنها قدمتْ من الصعيد، ومعها هذا الخروف البكر الرشيق الذي انفقت في تربيته ثلاثة أعوام هي عمر ابنها، لأنها نذرت للسيد البدوي إذا عاش ابنها.. أن تذبح على أعتابه خروفاً، وبعد غد يبدأ العام الثالث موعد النذر!..

* كانت تقول كل هذه العبارات وهي سعيدة.. وخرجت إلى الصالة لأجد زوجها، وهو في إبتهاج عظيم.. يطلب مني أن أرافقهم إلى طنطا.. لكي أرى هذا المهرجان العظيم، لأنهم نظراً لبعد المسافة اكتفوا بالخروف.. فأما الذي على مقربة من السيد البدوي فإنهم يبعثون بِجِمال.. وأصبح عليّ أن أجامل ابنة خالتي لكي يعيش ابنها، وإلا اعتُبرت قاطعاً للرحم... لا يهمني أن يعيش ابن خالتي أو يموت، ولا بد أن أذهب معهم إلى مهرجان الشرك، وفي نفس الوقت كنت أسأل نفسي.. كيف أقنعها بأنها في طريقها إلى الكفر..؟ وماذا سيحدث حينما أحطم لها الحلم الجميل الذي تعيش فيه منذ ثلاث سنوات...؟

وقلت: أبدأ بزوجها أولاً، لأن الرجال قوامون على النساء.. وأخذت الزوج إلى زاوية في البيت، وتعمدت أن يرى في يدي كتاب: الإمام محمد بن عبد الوهاب.. ومدّ يده فجعل الغلاف في ناحيته، وما كاد يقرأ العنوان حتى قفز كأنه أمسك بجمرة نار!..

قرأ زوج ابنة خالتي عنوان الكتاب الذي يقول: إن في الصفحات قصة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته، وهتف صارخاً: ما هذا الذي أقرؤه...؟ وكيف وصلني هذا الكتاب..؟ لابد أن أحدهم دسه عليَّ!!.. فهو يعرف أنني رجل متزن... أحرص على ديني، وعلى زيارة الأضرحة، وتقديم الشموع، والنذور، وأحياناً القرابين المذبوحة والحية، كما يفعل هو تماماً.. ورأيت في عينيه نظرة رثاء... إلى ما رماني به القدر في تلك النسخة... وكان عليَّ أن أقف منه موقف الدكتور جميل غازي مني سابقاً.. وشاء الله أن يكون ذلك بمثابة الامتحان لي.. وهل في إستطاعتي أن أطبق ما قرأت أم لا..؟ وهل إستوعبت عن يقين ما قرأت أم لا..؟ والأهم من ذلك هو مدى إصراري على عقيدتي وإقناع الآخرين بها أيضاً، فالذي لا يؤثر في المحيط الذي يعيش فيه.. هو صاحب عقيدة سلبية... غير إيجابية.. فليس من المعقول في شيء.. أن أطوي توحيدي على نفسي، وأترك الآخرين يعيشون في ضلالة، لأنهم بعد فترة سوف يغرقونني في خرافاتهم.. وعليه فلا بد أن أجادلهم بالتي هي أحسن.. لا أتركهم يشعرون أن الأمر هينّ.. لابد أن أنفرهم من شركهم.. وهم لابد أن يتراجعوا، لأن الخرافة   -نظراً لأنها تقوم على ضلالات هشة- لا يكاد الشك يدخلها حتى يهدمها.. والحق في تعقبها إذا كان لحوحاً.. قضى عليها... أو على أقل تقدير أوقف نموها حتى لا تصيب الآخرين.. ومن أجل ذلك كله قررت أن أتوكل على الله، وأبدأ الشرح للرجل... ولم تكن المهمة سهلة.. فلا بد أولاً أن أطمئنه، وأزيل ما بينه وبين سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.. ثم ما ترسّب في ذهنه من زمن عن الوهابية والوهابيين.. ففي أول الحديث.. اتهم الوهابية بعدد من الاتهامات يعلم الله أن دعوة التوحيد بريئة منها.... براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام!..

ورحت أحاول في حماس شديد.. أشرح له سر حملات الكراهية، والبغضاء التي يشنها البعض على دعوة التوحيد.. وكيف أنها أحيت شعائر الشريعة، وأصول العبادات، وفي ذلك القضاء على محترفي الدّجل، وحراس المقابر، وسدنة الأضرحة، والذين يُكدّسون الأموال عاماً بعد عام.. من بيع البركات، وتوزيع الحسنات على طلاب المقاعد في الجنة.. فالمقاعد محدودة والوقت قد أزف..! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..!

ولمحت على ملامحه بعض سمات الخير.. نظر في دهشة.. كأنه يفيق من غيبوبة... ورغم ذلك فقد راح يتشنج، ويدافع عن أهل الله الذين ينامون في قبورهم لكن يتحكمون بأرواحهم في بقية الكون، وأنهم يدعون كل ليلة جمعة للإجتماع عند قطب من الأقطاب... وحتى النساء من الشهيرات يلتقين -أيضاً- مع الرجال الأقطاب، وينظرون في شؤون الكون...!

* ولم أكن أطمع في زحزحته عن معتقدات في ضميره عمرها أكثر من ثلاثين سنة... فإكتفيت بأن طلبت منه أن ينظر في الأمر.. هل هؤلاء الموتى من أصحاب الأضرحة... أكرم عند الله أم رسول الله؟!! ثم يفكر طويلاً، ويجيء إلىَّ بالنتيجة... دون ما تحيّز أوتعصّب.. ووعدني بأن يُفكّر، ولكنه فقط يطلب مني أن أرافقهم في رحلتهم الميمونة إلى طنطا... فقلت له: إن هذا هو المستحيل لن يحدث.. وإذا كان مصمماً على الذهاب هو وزوجته إلى السيد البدوي حتى يعيش ابنهما.. فالمعنى الوحيد لذلك هو أن الأعمار بيد السيد البدوي... وحملق فيَّ وصاح: لا تكفر يا رجل..؟

فقلت له: أينا يكفر الآن..؟ أنا الذي أطلب منك أن تتوجه إلى الله..؟ أم أنت الذي تُصرّ على أن تتوجه إلى السيد البدوي..؟

وسكت وإعتبر هذا مني إهانة لضيافته، وأخذ زوجته والخروف وابنها، وإنصرفوا من العباسية في القاهرة إلى طنطا، وحيثما وقفت أودعهم.. همست في أذن الزوج: أنه إذا تفضل بعدم المرور علينا بعد العودة من مهرجان الشرك.. فإنني أكون شاكراً له ما يفعل... وإلا لقي مني ما يضايقه.. وازداد ذهول الرجل، ومضى الركب الغريب.. يسوق الخروف نحو طنطا..!

وانثنت زوجتي تلومني، لأنني كنت قاسياً معهم، وهم الذين يخافون على طفلهم.... الذي عاش لهم بعد أن تقدم بهما العمر، ومات لهما من الأطفال الكثير.. وصحت في زوجتي، إن الطفل سيعيش فذلك لأن الله يريد له أن يعيش، وإن كان سيموت فذلك لأن الله يُريد له ذلك.. ولا شريك لله في أوامره ولا شريك له في إرادته.

وذهبت إلى إدارة الجريدة التي أعمل بها.. وإذا بالدكتور يتصل بي تليفونياً، ليتحدث معي في شأن له، ولم يخطر بباله أن يسألني: ماذا فعل بي الكتاب؟ أو ماذا فعلت به؟ واضطررت أن أقول له: إنني في حاجة إلى مناقشة بعض ما جاء في الكتاب معه... والتقينا في الليل وحدثته عن الكارثة التي جاءتني من الصعيد، ولم يعلق على محاولتي إقناعهم بالعدول عن شركهم.. مع أنني منذ أيام فقط.. كنت لا أقل شركًا عنهم، وقلت له: ألا يلفت نظرك أنني أقول لهم ما كنت تقوله لي..؟

قال في هدوء يغيظ: إنه كان على يقين من أنني سوف أكون شيئاً مفيداً للدعوة.. وأردت الإحتجاج على أنني من الأشياء ولست من الآدميين، لكن الدكتور لم يتوقف، وقال: لقد صدر منك كل هذا بعد قراءة نصف الكتاب، فكيف بك إذا قرأت الكتب الأخرى؟! وأغرق في الضحك!!.

وعلمت بعد أيام أن قريبتي عادت من طنطا إلى الصعيد مباشرة دون المرور علينا في القاهرة، وأنها غاضبة مني، وشكتني لكل شيوخ الأسرة، وفي الأسبوع الثاني فوجئت بجرس الباب يدقّ.. وذهب ابني الصغير، ليستطلع الأمر.. ثم عاد يقول لي: إبراهيم الحران...      -الحران.. إنه زوج ابنة خالتي.. ماذا حدث..؟

هل جاءوا بخروف جديد، ونذر جديد لضريح جديد... أم ماذا..؟ وقررت أن يخرج غضبي من الصمت إلى العدوان هذه المرة، ولو بالضرب.. ومشيت في ثورة إلى الباب.. وإذا بهذا الحران يمد يده ليصافحني، ودَعَوْته إلى الدخول فرفض.. إذًا لماذا جاء..؟ وفيم جاء؟، وإبتسم إبتسامة مغتصبة وهو يقول: إنه يطلب كتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي عندي، وحملقت فيه طويلاً، وجلست على أقرب مقعد..!

سقطت قلعة من قلا ع الجاهلية.. لكن لماذا؟ وكيف كان السقوط؟...

الكاتب: عبد المنعم الجدّاوي.

المصدر: موقع دعوة الأنبياء.